نظمت جامعة الملك خالد، ضمن فعاليات ماراثون "قمم تقرأ" وبالتعاون مع مشروع "مبادرون"، جلسة حوارية بعنوان "القراءة ودورها في صناعة المثقف"، استضافت فيها مدير مركز تاريخ منطقة عسير الدكتور علي آل قطب، وأدارتها الأستاذة شادن العمري،في المكتبة المركزية بالمدينة الجامعية بالفرعاء، بحضور جمع من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري.
واستهل الدكتور آل قطب الجلسة بمناقشة مفهوم المثقف والجدل القائم حول تعريفه ووظيفته في المجتمع، حيث أوضح أن المثقف لا يقتصر على كونه قارئًا أو مطالعًا واسع الاطلاع، بل هو شخصية مؤثرة تتبنى مواقف معرفية وتُسهم في صياغة الوعي العام. وتم التمييز بين من يكتفي بجمع المعلومات دون أثر يذكر، وبين من يحول معرفته إلى مواقف فكرية وأخلاقية واجتماعية تنعكس على مجتمعه. كما أشار إلى أن عصر وسائل التواصل أوجد تصنيفات جديدة، مثل المطالع العابر بجانب القارئ والمثقف.
وتطرقت الجلسة إلى جذور مصطلح المثقف في الثقافة العربية، مبينة – بحسب آل قطب – أن دخوله ارتبط بالاحتكاك بالحداثة الغربية التي فرضت أنماط حياة ومعرفة جديدة على المجتمعات العربية. ورغم هذا التأثر، ظل جوهر المفهوم قائمًا في القدرة على التأثير في الوعي الجمعي وتجسيد المبادئ المعرفية والأخلاقية في المجال العام. كما أكد أن المثقف لا يمكن حصره في طبقة اجتماعية محددة، فقد يكون أكاديميًّا أو موظفًا أو مزارعًا، ما دام يملك أدوات المعرفة التي تمنحه التأثير في مجتمعه.
كما تناول الحوار المقارنة بين المثقف في الشرق والغرب، حيث بيّن آل قطب أن جوهر الدور واحد يتمثل في الاشتغال بالمعرفة وإحداث التغيير في الوعي الاجتماعي، غير أن التفسيرات حوله ظلت متعددة وجدلية. واستُعرضت آراء فكرية مختلفة ترى في المثقف ضميرًا مجتمعيًّا وحارسًا للقيم ومناصرًا للحق، في مقابل تصورات أخرى تصفه بوصفه نتاجًا لمعارف متشابكة بين الفلسفة والأدب والتاريخ والعلوم الإنسانية.
وانتقل النقاش إلى محور القراءة ودورها في صناعة المثقف، حيث أكد آل قطب أن القراءة تمثل غذاءً للعقل والروح، وأن بناء شخصية المثقف لا يقوم على كتاب واحد أو مجال واحد بل على تنوع معرفي يشمل الأدب والتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية. كما أشار إلى أهمية التدرج في القراءة والبدء بالمصادر الميسرة قبل التعمق في المراجع الموسوعية، مع تقديم أمثلة لكتب ومراجع أساسية في مجالات التاريخ والفكر والاقتصاد يمكن أن تمثل منطلقًا للقراء في بداياتهم.
وتم التوقف عند الفرق بين الأكاديمي والمثقف، حيث أوضح آل قطب أن الأكاديمي غالبًا ما يظل مقيدًا بمجال تخصصه، بينما المثقف يتميز بأفق أوسع وقدرة على الربط بين الحقول المختلفة، خصوصًا في مجالات الإنسانيات. وهذا ما يمنحه ميزة إضافية في تحليل الظواهر المجتمعية والفكرية بصورة أكثر شمولًا واتساعًا.
وأشار آل قطب كذلك إلى دور القدوة في توجيه الأجيال نحو مسار القراءة والمعرفة، معتبرًا أن تأثير الأستاذ الجامعي أو المثقف في محيطه قد يكون كفيلًا بفتح أبواب واسعة أمام الشباب نحو مصادر الفكر والوعي. كما نوقشت أهمية الحوار والنقاش في إنضاج الأفكار وصقلها، إذ لا يمكن للأفكار أن تنمو في عزلة، بل عبر التفاعل مع الآخرين وتبادل وجهات النظر.
كما شدد آل قطب على أن المثقف لا يمكن أن يكون محايدًا بالكامل، إذ إن الحياد في قضايا كبرى مثل العدالة أو الأمن الوطني يتحول إلى موقف سلبي، بينما المطلوب هو الانحياز للقيم مع المحافظة على مساحة من التسامح الفكري وقبول الآخر. وجرى التأكيد في هذا السياق على أن المثقف الحقيقي هو من يوازن بين الموقف الأخلاقي والانفتاح على الاختلاف.
وأفردت الجلسة مساحة للحديث عن علاقة المثقف بالزمن، حيث اعتبر آل قطب أن الوقت يمثل رأس المال الحقيقي في مسيرته الفكرية. واستُحضرت نماذج من علماء ومفكرين كرّسوا أعمارهم للبحث والتأليف، مثل الطبري وفخر الرازي وعبدالوهاب المسيري، لتوضيح أن تراكم المعرفة عبر السنين هو ما يصوغ الهوية الثقافية للمثقف.
كما تناولت الجلسة أثر التجربة الحياتية والتحولات الفكرية في تشكيل شخصية المثقف، حيث أشار آل قطب إلى أن التغيرات الطفيفة في المواقف تعد طبيعية وتعكس بحثًا صادقًا عن الحقيقة، بينما التحولات الجذرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قد تكون مرتبطة بظروف نفسية أكثر منها بمسار معرفي راسخ. وهذا ما يبرز أهمية الاستمرارية والتطور التدريجي في بناء الفكر.
وفي ختام الجلسة، جرى التأكيد – على لسان آل قطب – أن القراءة، رغم كونها ممارسة فردية، تتحول عبر المثقف إلى فعل حضاري جماعي يسهم في تشكيل الضمير العام وتعزيز الوعي المجتمعي. كما تم التشديد على أن المثقف الحقيقي هو من يحول التراكم القرائي والمعرفي إلى رؤى وأفكار ومواقف تخدم المجتمع وتدعم حضوره الثقافي والفكري.
يشار إلى أن ماراثون القراءة "قمم تقرأ" الذي تنظمه عمادة الخدمات الإلكترونية بالجامعة، ممثلة بوكالتها لمصادر المعرفة، يهدف إلى جعل القراءة ممارسة يومية فاعلة، تسهم في تنمية الوعي الثقافي والمعرفي لدى مختلف الشرائح العمرية. ويستهدف الماراثون فئتين رئيسيتين من القرّاء، تبدأ من سن الثالثة عشرة وحتى الثامنة عشرة، وفئة الشباب والكبار ممن تجاوزوا التاسعة عشرة، بما يفتح المجال أمام مشاركة أوسع وأكثر شمولية.
ويتيح الماراثون للمشاركين خوض تجربة معرفية متكاملة تشمل قراءة الكتب في مجالات متعددة كالآداب والعلوم الاجتماعية والاقتصاد والتاريخ والفلسفة والطب والهندسة، إلى جانب كتابة المراجعات وتنفيذ مبادرات عملية مستوحاة من محتوى القراءة. كما يشتمل على أنشطة تفاعلية وتحديات إبداعية، منها تصميم أغلفة الكتب والتلخيصات، ويختتم بمنح جوائز تشجيعية، تعكس اهتمام الجامعة بدعم المبادرات التي تُسهم في بناء مجتمع قارئ ومثقف في منطقة عسير.